سيرة الإمام النووي رحمه الله تعالى

 

نسَبُه:

 

هو الإِمام الحافظ شيخ الإسلام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حِزَام النووي نسبة إلى نوى وهي قرية من قرى حَوْران في سورية ثم الدمشقي الشافعي صاحب التصانيف النافعة..

 

مَوْلدُه ونشأته:

 

ولد في أرض حوران بسوريا بِنَوَى في العشر الأواسط من المحرّم سنة 631 هـ. عاش النووي في كنف أبيه ورعايته، وكان أبوه في دنياه مستور الحال مباركًا له في رزقه ، فنشأ النووي في ستر وخير مما يعتبر تهيئة له منذ طفولته وصباه لحمل عبء الوراثة النبوية في العلم والورع والصلاح، وهذا ما أشار إليه بعض الصالحين الكبار. وقد حصل أنه لما بلغ من العمر سبع سنين كان نائمًا ليلة السابع والعشرين رمضان بجانب والده، فانتبه نحو نصف الليل. يقول والده وأيقظني وقال: يا أبتي ما هذا الضوء الذي قد ملأ الدار؟ فاستيقظ أهله جميعًا فلم نرَ كلنا شيئًا. قال والده: فعرفت أنها ليلة القدر (الطبقات الكبرى للسبكي). ولما بلغ الإمام النووي ثماني عشرة سنة قدم به والده إلى دمشق، وكانت دمشق ءانذاك مركز العلماء وطلبة العلم من أنحاء العالم الإسلامي. وكان يجتهد ويبذل جهده كل البذل لطلب العلم، وحين استقر في المدرسة الرواحية في دمشق أقبل على طلب العلم لما يعتلج بقلبه وعقله من شغف وجد واستعداد، حتى إنه قال : وبقيت سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض. ويقول الذهبي: وضُرب به المثل في انكبابه على طلب العلم ليلاً نهارًا وهجره النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزوم التدريس أو الكتابة أو المطالعة أو التردد على الشيوخ.

 

دراسته:

 

قال الذهبي "ذكر شيخنا أبو الحسن بن العطار أن الشيخ محي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كلََّ يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً درسين في (الوسيط) ودرساً في (المهذب) ودرساً في (الجمع بين الصحيحين) ودرساًً في (صحيح مسلم) ودرساً في (اللمع) لابن جنّي ودرساً في (إصلاح المنطق) لابن السكّيت ودرساً في التصريف ودرساً في أصول الفقه <تارة في اللمع لأبي إسحاق وتارة في المنتخب لفخر الدين> ودرساً في أسماء الرجال ودرساً في أصول الدين، قال: وكنت أعلق جميعَ ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة وضبط لغة، بارك الله تعالى في وقتي"

 

مشايخه:

 

إن المراجع تذكر كثيرًا من مشايخه الذين تلقى علومه عنهم، يقول النووي في معرض ذكر شيوخه في الفقه وتسلسلهم إلى إمام مذهبه الإمام الشافعي ثم إلى النبي : "فأما أنا فأخذت الفقه قراءة وتصحيحًا وسماعًا وشرحًا وتعليقًا عن جماعات أولهم: شيخي الإمام المتّفق على علمه وزهده وورعه وكثرة عبادته وعظم فضله وتميّزه في ذلك على نظرائه أبو إبراهيم إسحق ابن أحمد بن عثمان المغربي ثم المقدسي رضي الله عنه وأرضاه وجمع بيني وبين سائر أحبابنا في دار كرامته، ثم شيخنا أبو محمد عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن إبراهيم بن موسى المقدسي ثم الدمشقي، ثم شيخنا أبو حفص عمر ابن أسعد بن ابي غالب الربعي الإربلي الإمام المتقي رضي الله عنه، ثم شيخنا أبو الحسن سلاّر بن الحسن الإربلي ثم الحلبي ثم الدمشقي رضي الله عنه". (تهذيب الأسماء واللغات). وشيوخه في الحديث كثيرون منهم: إبراهيم المرادي الأندلسي ثم المصري ، وأبو إسحق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن مضر الواسطي، والشيخ زين الدين خالد ابن يوسف ابن سعد النابلسي، وشيخ الشيوخ عبد العزيز ابن محمد بن عبد المحسن الأنصاري الحموي الشافعي، وزين الدين أبو العباس بن عبد الدائم المقدسي، وأبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي. وقرأ علم الأصول على جماعة كما قال تلميذه ابن العطار، أشهرهم وأجلّهم العلامة القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي ابن محمد التفليسي الشافعي، قرأ عليه "المنتخب" للإمام فخر الدين الرازي وقطعة من كتاب "المستصفى" للغزالي وغيرهما. وقرأ النحو على الشيخ أحمد بن سالم المصري وعلى ابن مالك وغيرهما.

 

النووي الفقيه:

 

أخذ النووي الفقه الشافعي عن كبار عصره، فحفظ الفقه وأتقنه وعرف قواعده وأصوله حتى عُرف بذلك بين العامة والخاصة، ثم قفز قفزته فتساوى مع شيوخه وكان من أعلم علماء عصره وأحفظهم للمذهب. يقول الإسنوي: "وهو -أي النووي- محرر المذهب ومهذّبه ونقّحه ومرتّبه فطار في الآفاق ذكره وعلا في العالم قدره". (الطبقات للإسنوي 3 / 476). ويقول ابن كثير عنه: "شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه"، (البداية والنهاية 13 / 378).

 

النووي المحدّث:

 

قلّما اجتمع لعالم تبحّر في الفقه وإتقانٌ لعلم الحديث. يقول تلميذه ابن العطار: سمع صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داوود والترمذي، وسمع سنن النسائي بقراءته ، وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل والدارمي وأبي عُوانة الاسفراييني وأبي يعلى الموصلي وسنن ابن ماجة والدارقطني والبيهقي و "شرح السنة" للبغوي و "معالم التنزيل" في التفسير وكتاب " لأنساب" للزبير بن بكار و "الخطب النباتية" ورسالة القشيري و "عمل اليوم والليلة" لابن السني وكتاب "ءاداب السامع والراوي" للخطيب وأجزاء كثيرة غير ذلك.

 

تلاميذه:

 

وكان ممّن أخذ عنه العلم : علاء الدين بن العطار وشمس الدين بن النقيب وشمس الدين بن جَعْوان وشمس الدين بن القمَّاح والحافظ جمال الدين المزي وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ورشيد الدين الحنفي وأبو العباس أحمد بن فَرْح الإِشبيلي وسمع منه خلق كثير من العلماء والحفّاظ والصّدور والرؤساء وتخرّج به خلق كثير من الفقهاء". وسار علمه وفتاويه في الآفاق.

 

أخلاقُهُ وَصفَاتُه:

 

أجمعَ أصحابُ كتب التراجم أن النووي كان رأساً في الزهد وقدوة في الورع وعديم النظير في مناصحة الحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويطيب لنا في هذه العجالة عن حياة النووي أن نتوقف قليلاً مع هذه الصفات المهمة في حياته..

 

زهده وورعه:

 

لازم الإشتغال والتصنيف ونشر العلم والعبادة والأوراد والصيام والذكر والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس ملازمة كلية، ملبسه ثوب خام وعمامته شبختانية صغيرة. قال تاج الدين السبكي : كان يحيى سيدا حصورا، وليثا على النفس هصورا، وزاهدا لم يبال بخراب الدنيا إذا صير دينه ربعاً معمورا، له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة هذا مع التفنن في أصناف العلوم فقهاً، ومتون أحاديث وأسماء الرجال ولغة وصرفاً وغير ذلك. وأنا إذا أردت أن أجمل تفاصيل فضله وأدل الخلق على مبلغ مقداره بمختصر القول وفصله لم أزد على بيتين أنشدنيهما من لفظه لنفسه الشيخ الإمام وكان من حديثيهما أنه -أعني الوالد رحمه الله- لما سكن في قاعة دار الحديث الأشرفية سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة كان يخرج في الليل إلى إيوانها ليتهجد تجاه الأثر الشريف ويمرغ وجهه على البساط وهذا البساط من زمان الأشرف الواقف وعليه اسمه، وكان النووي يجلس عليه وقت الدرس، فأنشدني الوالد لنفسه:

 

وفي دارٍ الحديثٍ لطيفُ معنى ..... على بُسُطِ لها أصبو وءاوي

عسى أني أمَسُّ بٍحُرٍ وجهي ..... مكاناً مسَّهُ قَدَمُ النَّواَوي" اهـ..

 

وفي <شذرات الذهب> لإبن العماد قال نقلاً عن الذهبي: "وكان مع تبحره في العلم وسعة معرفته بالحديث والفقه واللغة وغير ذلك بما قد سارت به الركبان رأسًا في الزهد قدوة في الورع عديم المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قانعًا باليسير راضيًا عن الله والله عنه راض مقتصدًا إلى الغاية في ملبسه ومطعمه وإنائه تعلوه سكينة وهيبة. فالله يرحمه ويسكنه الجنة بمنه. ولي مشيخة دار الحديث بعد الشيخ شهاب أبي شامة الدين وكان لا يتناول من معلومها شيئًا بل يتقنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه" اهـ.. ثم قال ابن العماد: "وقال ابن العطار: كان قد صرف أوقاته كلها في أنواع العلم والعمل بالعلم، وكان لا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء الآخر، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولم يتزوج" اهـ..

 

من كراماته:

 

قال محمد بن الحسن اللخمي: "إنه ظهرت للنووي الكرامات الكثيرة من سماع الهاتف، ومن انفتاح الباب المقفل بالأقفال وردّه كما كان، وانشقاق الحائط في الليل وخروج شخص له منه حسن الصورة وكلامه معه في مصالح الدارين، واجتماعه بالأولياء والأصفياء".

 

من تصانيفه:

 

للإمام النووي مؤلفات عديدة انتفع الناس بسائر البلاد بها، وقد ألّف في علوم شتى: الفقه والحديث وشرح الحديث والمصطلح واللغة والتراجم والتوحيد وغير ذلك، وتمتاز مؤلفاته بالوضوح وصحة التعبير وانسيابه بسهولة وعدم تكلف. والحقّ أن النووي عاش نحوًا من ست وأربعين سنة وترك من المؤلفات ما لو قُسّم على سنين حياته لكان نصيب كل يوم كراستان، وهذا بركة من الله في عمره. ومن مؤلفاته:

- شرح مسلم.

- روضة الطالبين.

- منهاج الطالبين.

- رياض الصالحين.

- التبيان في ءاداب حملة القرءان.

- التحرير في ألفاظ التنبيه.

- المجموع شرح المهذب.

- العمدة في تصحيح التنبيه.

- الإيضاح في المناسك.

- الإرشاد والتقريب.

- الأربعون النووية.

- بستان العارفين.

- مناقب الشافعي.

- مختصر أُسْد الغابة.

- الفتاوى المسماة بالمسائل المنثورة.

- أدب المفتي والمستفتي.

- مسئلة تخميس الغنائم.

- مختصر التذنيب.

- دقائق الروضة.

- تحفة طلاب الفضائل.

- الترخيص في الإكرام والقيام.

- تهذيب الأسماء واللغات.

وله سوى هذه مؤلفات كثيرة بعضها لم يستطع أن يكملها.

 

وَفَاته:

 

قال الذهبي: "سافر الشيخ فزار بيت المقدس وعاد إلى نوى فمرض عند والده فحضرته المنية، فانتقل إلى رحمة الله في الرابع والعشرين من رجب سنة ستة وسبعين وست مائة وقبره ظاهر يزار" اهـ.. كان لوفاته وقع أليم على دمشق وأهلها، ورثاه جماعة بأكثر من ستمائة بيت وأسكنه فسيح جناته. ولما بلغ نعيه إلى دمشق ارتجّت وما حولها بالبكاء وتأسف عليه المسلمون أسفاً شديداً وتوجّه قاضي القضاة عزّ الدين محمد بن الصائغ وجماعة من أصحابه إلى نوى للصلاة عليه في قبره ورثاه جماعة منهم محمد بن أحمد بن عمر الحنفي الإِربلي وقد اخترت هذه الأبيات من قصيدة بلغت ثلاثة وثلاثين بيتاً :

 

عزَّ العزاءُ وعمَّ الحادث الجلل ... وخاب بالموت في تعميرك الأمل

واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها ... وساءَها فقدك الأسحارُ والأصلُ

وكنت للدين نوراً يُستضاء به ... مسدَّد منك فيه القولُ والعملُ

زهدتَ في هذه الدنيا وزخرفها ... عزماً وحزماً ومضروب بك المثل

أعرضت عنها احتقاراً غير محتفل ... وأنت بالسعي في أخراك محتفل

 

خاتمة:

 

كان الإمام النووي سيفًا قاطعًا على أهل الفسق والإلحاد، وكان من حماة العقيدة الإسلامية عقيدة رسول الله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم، التي بيّنوها للناس في مؤلفاتهم ووعظهم، فهو كغيره من أئمة الهدى على عقيدة السلف الصالح ينزّه الله تعالى عن المكان والكيفية والجسمية والأعضاء وينزّهه عن الحركة والسكون وعن مشابهة المخلوقين.