عن أبي هريرةَ عبدِ الرحمنِ بنِ صخر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول ﷺ:
”مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فإنّما أهلكَ الذينَ مِن قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم”
رواهُ البخاريُّ ومسلم.
قوله: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ)
النهي: طلب الكفّ على وجه الاستعلاء، يعني أن يطلب منك من هو فوقك - ولو
باعتقاده - أن تكفّ، فهذا نهي. ولهذا قال أهل أصول الفقه: النهي طلب الكفّ
على وجه الاستعلاء ولو حسب دعوى الناهي، يعني وإن لم يكن عالياً على
المنهي. ومعلوم أن النبي ﷺ أعلى منّا حقيقة. ( مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوْهُ) الجملة شرطية، فـ: (ما) اسم شرط، و: (نهيتكم) فعل الشرط، و: (فَاجْتَنِبُوْهُ)
جواب الشرط، والمعنى أي ابتعدوا عنه، فكونوا في جانب وهو في جانب.
)وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)هذه الجملة
أيضاً شرطية، فعل الشرط فيها: (أمرتكم به) وجوابه: (فأتوا منه ما استطعتم)
يعني افعلوا منه ما استطعتم، أي ما قدرتم عليه. والفرق بين المنهيات
والمأمورات: أن المنهيّات قال فيها: فَاجْتَنِبُوهُ ولم يقل ما استطعتم،
ووجهه: أن النهي كف وكل إنسان يستطيعه، وأما المأمورات فإنها إيجاد قد
يستطاع وقد لا يستطاع، ولهذا قال في الأمر: فأتُوا مِنْهُ مَا استَطَعتُمْ
)فَإِنَّمَا) (إن) للتوكيد، و (ما) اسم موصول بدليل قوله: (كثرة) على أنها خبر (إن) أي فإن الذي أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم. ويجوز أن تجعل (إنما) أداة حصر، ويكون المعنى: ما أهلك الذين من قبلكم إلا كثرة مسائلهم. وقوله: (الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ )
يشمل اليهود والنصارى وغيرهم، والمتبادر أنهم اليهود والنصارى، ، فإن
نظرنا إلى العموم قلنا المراد بقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ جميع الأمم، وإن
نظرنا إلى قرينة الحال قلنا المراد بهم: اليهود والنصارى . واليهود أشدّ
في كثرة المساءلة التي يهلكون بها، وقوله: ( كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ) جمع مسألة وهي: ما يُسأل عنه. ) وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) يعني وأهلكهم اختلافهم. وقوله: (عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) وذلك بالمعارضة والمخالفة، وفي الحديث قال: ( اختلافهم على أنبيائهم ) ولم يقل:عن أنبيائهم، لأن كلمة (على) تفيد أن هناك معارضة للأنبياء.
أبو
هريرة هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وكان يعرف بالجاهلية باسم عبد شمس بن
صخر، وعرف بأبي هريرة لأنه كان يرعى الأغنام وهو صغير مع هرته الصغيرة التي
كان يحتفظ بها في الشجر ليلاً، حيث كان يعطف عليها، ويرعاها، ويطعمها، ولد
في عام 21 قبل الهجرة النبوية في قبيلة دوس، وأسلم في السنة السابعة من
الهجرة عندما كان في الثامنة والعشرين من العمر، كان أبو هريرة شديد الفقر،
حيث كان يربط على بطنه حجراً من شدة الجوع، وفي أحد الأيام خرج وهو جائع،
فمر به أبو بكر، فسأله أبو هريرة عن تفسير آية ما، ففسرها له، وانصرف،
علماً بأن أبا هريرة يعرف تفسيرها، إلا أنه أراد منه أن يصطحبه لبيته
ليطعمه، فمر عليه عمر بن الخطاب، وفعل معه كما فعل مع أبي بكر، إلا أنه رد
عليه كما رد أبي بكر، وانصرف، فمر على رسول الله، فعلم ما يرد، وأخذه إلى
بيته، فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين لكم هذا؟ قيل: أرسل به إليك. فقال
النبي: أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة؛ فادعهم، فحزن أبو هريرة، وقال في
نفسه: كنت أرجو أن أشرب من اللبن شربة أتقوى بها بقية يومي وليلتي، ثم قال
في نفسه: لا بد من تنفيذ أمر الرسول، وذهب إلى المسجد، ونادى على أهل
الصفة، فجاءوا، فقال في نفسه: إذا شرب كل هؤلاء ماذا يبقى لي في القدح،
فأتوا معه إلى بيت النبي، فقال له النبي: أبا هر، خذ فأعطهم، فقام أبو
هريرة يدور عليهم بقدح اللبن يشرب الرجل منهم حتى يروى ويشبع، ثم يعطيه لمن
بعده فيشرب حتى يشبع، حتى شرب آخرهم، ولم يبق في القدح إلا شيء يسير، فرفع
النبي رأسه وهو يبتسم وقال: أبا هر قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا
وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، فقال الرسول: فاقعد فاشرب، قال أبو هريرة:
فقعدت فشربت، فقال: اشرب. فشربت، فما زال النبي يقول لي اشرب فأشرب حتى
قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مساغًا، فقال النبي: ناولني القدح فأخذ
النبي القدح فشرب من الفضلة [ صحيح البخاري].